كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السَّيْرِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَاتَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ مَا نَفَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا عِبَارَتَهُ، بَلْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تُقَاتِلْ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِيمَا عَدَاهُ كَانُوا عَدَدًا وَمَدَدًا لَا يُقَاتِلُونَ. وَأَنْكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ قِتَالَ الْمَلَائِكَةِ وَقَالَ: إِنَّ الْمَلَكَ الْوَاحِدَ يَكْفِي فِي إِهْلَاكِ أَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا فَعَلَ جِبْرِيلُ بِمَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ؛ فَإِذَا حَضَرَ هُوَ يَوْمَ بَدْرٍ فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى مُقَاتَلَةِ النَّاسِ مَعَ الْكُفَّارِ؟ وَبِتَقْدِيرِ حُضُورِهِ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي إِرْسَالِ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ؟ وَأيضا فَإِنَّ أَكَابِرَ الْكُفَّارِ كَانُوا مَشْهُورِينَ، وَقَاتَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَنِ الصَّحَابَةِ مَعْلُومٌ، وَأيضا لَوْ قَاتَلُوا فَإِمَّا أن يكونوا بِحَيْثُ يَرَاهُمُ النَّاسُ أَوَّلًا، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُشَاهَدُ مِنْ عَسْكَرِ الرَّسُولِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَأَكْثَرَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ خِلَافُ قوله: {وَيُقْلِلْكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [8: 44] وَلَوْ كَانُوا فِي غَيْرِ صُورَةِ النَّاسِ لَزِمَ وُقُوعُ الرُّعْبِ الشَّدِيدِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَعَلَى الثَّانِي كَانَ يَلْزَمُ جَزُّ الرُّءُوسِ وَتَمَزُّقُ الْبُطُونِ وَإِسْقَاطُ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةِ فَاعِلٍ، وَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَوَاتَرَ وَيَشْتَهِرَ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ وَالْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ.
وَأيضا إِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَجْسَامًا كَثِيفَةً وَجَبَ أَنْ يَرَاهُمُ الْكُلُّ، وَإِنْ كَانُوا أَجْسَامًا لَطِيفَةً هَوَائِيَّةً فَكَيْفَ ثَبَتُوا عَلَى الْخُيُولِ؟ اهـ. ذَكَرَ ذَلِكَ الرَّازِيُّ وَالنَّيْسَابُورِيُّ، فَالرَّازِيُّ أَوْرَدَ هَذَا عَنِ الْأَصَمِّ وَذَكَرَ حُجَجَهُ مُفَصَّلَةً كَعَادَتِهِ بِقوله: الْحُجَّةُ الأولى- الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ إِلَخْ، وَلَخَّصَهُ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَاعْتَرَضَ الرَّازِيُّ عَلَيْهِ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ بِمَا يَدْفَعُ هَذِهِ الْحُجَجَ أَوْ يُبَيِّنُ لَهَا مَخْرَجًا.
لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ نَصٌّ نَاطِقٌ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَاتَلَتْ بِالْفِعْلِ فَيَحْتَجُّ بِهِ الرَّازِيُّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ الْمَلَائِكَةِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ عَلَى أَنَّهَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ تعالى بِإِمْدَادِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَفَسَّرَ هَذَا الْإِمْدَادَ بِقَوْلِهِ- عَزَّ وَجَلَّ-: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [8: 12] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي مَعْنَى التَّثْبِيتِ يَقُولُ قَوَّوْا عَزْمَهُمْ وَصَحَّحُوا نِيَّاتِهِمْ فِي قِتَالِ عَدُوِّهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ مَعُونَتَهُمْ إِيَّاهُمْ بِقِتَالِ أَعْدَائِهِمْ.
فَأَنْتَ تَرَى أنه جَزَمَ بِأَنَّ عَمَلَ الْمَلَائِكَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِنَّمَا كَانَ مَوْضُوعُهُ الْقُلُوبَ بِتَقْوِيَةِ عَزِيمَتِهَا، وَتَصْحِيحِ نِيَّتِهَا، وَذَكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَعُونَتِهِمْ فِي الْقِتَالِ بِصِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ قِيلَ وَجُعِلَ قوله تعالى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} إِلَخْ مِنْ تَتِمَّةِ خِطَابِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُهُ بَيَانًا لِمَا تُثَبِّتُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ النُّفُوسَ، أَيْ إِنَّهَا تُلْقِي فِيهَا اعْتِقَادَ إِلْقَاءِ اللهِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ إِلَخْ.
وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ الْأَصَمُّ وَلَا يَبْقَى مَحَلٌّ لِحُجَجِهِ فَإِنَّهُ لَا يُنْكَرُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَرْوَاحٌ يُمْكِنُ أن يكون لَهَا اتِّصَالٌ مَا بِأَرْوَاحِ بَعْضِ الْبَشَرِ وَتَأْثِيرٌ فِيهَا بِالْإِلْهَامِ أَوْ تَقْوِيَةِ الْعَزَائِمِ، وَيُؤَيِّدُهُ قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى} كَمَا قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
هَذَا مَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ- إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تعالى- وَأَمَّا يَوْمُ أُحُدٍ فَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أنه لَمْ يَحْصُلْ إِمْدَادٌ بِالْمَلَائِكَةِ وَلَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أنه ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ وَجَعَلَ الْوَعْدَ بِهِ مُعَلَّقًا عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى وَإِتْيَانِ الْأَعْدَاءِ مِنْ فَوْرِهِمْ، وَلَمْ تَتَحَقَّقْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فَلَمْ يَحْصُلِ الْإِمْدَادُ- كَمَا تَقَدَّمَ- وَلَكِنَّ الْقَوْلَ أَفَادَ الْبِشَارَةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ.
وَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ: مَا الْحِكْمَةُ وَمَا السَّبَبُ فِي إِمْدَادِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ بِمَلَائِكَةٍ يُثَبِّتُونَ قُلُوبَهُمْ وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى أَصَابَ الْعَدُوُّ مِنْهُمْ مَا أَصَابَ؟.
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ يُعْلَمُ مِنِ اخْتِلَافِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَيْنَكِ الْيَوْمَيْنِ فَنَذْكُرُهُ هُنَا مُجْمَلًا مَعَ بَيَانِ فَلْسَفَتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَنَدَعُ التَّفْصِيلَ فِيهِ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَإِنَّ مَا هُنَا تَفْصِيلٌ لِمَا فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ مِنَ الْحِكَمِ، وَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ تَفْصِيلٌ لِمَا كَانَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ مِنْ ذَلِكَ.
كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي قِلَّةٍ وَذِلَّةٍ مِنَ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ اعْتِمَادٌ إلا على اللهِ تعالى وَمَا وَهَبَهُمْ مِنْ قُوَّةٍ فِي أَبْدَانِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ، وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الثَّبَاتِ وَالذِّكْرِ إِذْ قَالَ: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [8: 45] فَبَذَلُوا كُلَّ قُوَاهُمْ وَامْتَثَلُوا أَمْرَ رَبِّهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي نُفُوسِهِمِ اسْتِشْرَافٌ إِلَى شَيْءٍ مَا غَيْرَ نَصْرِ اللهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ وَالذَّوْدِ عَنْ نَبِيِّهِ لَا فِي أَوَّلِ الْقِتَالِ وَلَا فِي أَثْنَائِهِ، فَكَانَتْ أَرْوَاحُهُمْ بِهَذَا الإيمان وَهَذَا الصَّفَاءِ قَدْ عَلَتْ وَارْتَقَتْ حَتَّى اسْتَعَدَّتْ لِقَبُولِ الْإِلْهَامِ مِنْ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ وَالتَّقْوَى بِنَوْعٍ مَا مِنَ الِاتِّصَالِ بِهَا.
وَأَمَّا يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ فِي أَوَّلِ الأمر عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنَ الِافْتِتَانِ بِمَا كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَلِذَلِكَ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْهُمْ أَنْ تَفْشَلَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا تَثَبَّتُوا وَبَاشَرُوا الْقِتَالَ انْتَصَرُوا وَهَزَمُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ خَرَجَ بَعْضُهُمْ عَنِ التَّقْوَى وَخَالَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ، وَطَمِعُوا فِي الْغَنِيمَةِ وَفَشِلُوا وَتَنَازَعُوا فِي الأمر فَضَعُفَ اسْتِعْدَادُ أَرْوَاحِهِمْ، فَلَمْ تَرْتَقِ إِلَى أَهْلِيَّةِ الِاسْتِمْدَادِ مِنْ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْهُمْ مَدَدٌ؛ لِأَنَّ الْإِمْدَادَ لَا يَكُونُ إلا على حَسَبِ الِاسْتِعْدَادِ.
هَذَا هُوَ السَّبَبُ لِمَا حَصَلَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَنَا، وَأَمَّا حِكْمَتُهُ فَهِيَ تَمْحِيصُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا سَيَأْتِي فِي قوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللهُ} [3: 141] إِلَخْ. وَتَرْبِيَتُهُمْ بِالْفِعْلِ عَلَى إِقَامَةِ سُنَنِ اللهِ تعالى فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ كَمَا سَيَأْتِي فِي قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [3: 137] وَبَيَانُ أَنَّ هَذِهِ السُّنَنَ حَاكِمَةٌ حَتَّى عَلَى الرَّسُولِ، وَأَنَّ قَتْلَ الرَّسُولِ أَوْ مَوْتَهُ لَا يَنْبَغِي أن يكون مُثَبِّطًا لِلْهِمَمِ وَلَا دَاعِيَةً إِلَى الِانْقِلَابِ عَلَى الْأَعْقَابِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ أَمْرِ الْعِبَادِ شَيْءٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ فَهُوَ نَتِيجَةُ عَمَلِهِمْ إِذْ هُوَ عُقُوبَةٌ طَبِيعِيَّةٌ لَهُمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ اللهُ تعالى فِي قوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} [3: 165] إِلَخْ، وَقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [3: 144] إِلَخْ وَغَيْرِهِمَا فَلَا نَتَعَجَّلُهُ قَبْلَ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِهِ وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ.
وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ الْمُؤَيِّدَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فِي الْوَقْعَتَيْنِ: أنه تعالى قَالَ هُنَا: وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [8: 10] وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مَا تَطْمَئِنُّ بِهِ قُلُوبُهُمْ غَيْرُ وَعْدِ اللهِ وَبِشَارَتِهِ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ يَوْمَئِذٍ: اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا قَالَ عُمَرُ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَمَا زَالَ يَسْتَغِيثُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَرَدَّاهُ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ لِرَبِّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. وَأَنْزَلَ اللهُ يَوْمَئِذٍ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ} [8: 9] الْآيَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا. فَكَانَ بِهَذَا الْوَعْدِ اطْمِئْنَانُ قُلُوبِهِمْ لَا بِسِوَاهُ؛ فَلِذَلِكَ قَدَّمَ {بِهِ} عَلَى {قُلُوبُكُمْ} وَأَمَّا فِي يَوْمِ أُحُدٍ فَلَمْ تَكُنِ الْحَالُ كَذَلِكَ- كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ آنِفًا- فَلَمْ تَعُدِ الْبِشَارَةُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ فَقَالَ: وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْرٍ. ثُمَّ قال تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ} وَبَعْضٌ آخَرُ إِلَى أنه مِنَ الْكَلَامِ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ الْمَقْصُودَةِ بِالذَّاتِ، فَإِنَّ ذِكْرَ النَّصْرِ بِبَدْرٍ إِنَّمَا جَاءَ اسْتِطْرَادًا؛ وَلِذَلِكَ أَنْكَرُوا أن يكون ذِكْرُ الْمَلَائِكَةِ الثَّلَاثَةِ الْآلَافِ وَالْخَمْسَةِ الْآلَافِ مُتَعَلِّقًا بِهِ- وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا؛ أَيْ أنه فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيَقْطَعَ طَرَفًا، أَوْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِهِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا. وَمَعْنَى قَطْعِ الطَّرَفِ مِنْهُمْ إِهْلَاكُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، يُقَالُ: قُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ إِذَا هَلَكُوا، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ التَّنْزِيلُ، وَعَبَّرَ عَنْ الطَّائِفَةِ بِالطَّرَفِ لِأَنَّهُمُ الْأَقْرَبُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوَسَطِ، أَوْ أَرَادَ بِهِمُ الْأَشْرَافَ مِنْهُمْ- كَذَا قِيلَ- وَالْمُتَبَادِرُ الْأَوَّلُ لَا لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} [9: 123] كَمَا قِيلَ، بَلْ لِأَنَّ الطَّرَفَ هُوَ أَوَّلُ مَا يُوصَلُ إِلَيْهِ مِنَ الْجَيْشِ، وَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ طَائِفَةً فِي أَوَّلِ الْحَرْبِ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ أنه قَالَ: ذَكَرَ اللهُ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ- يَعْنِي بِأُحُدٍ- وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَقَالَ: لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَخْ. وَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ كَانُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ آخَرُونَ بِأَنَّ حَمْزَةَ وَحْدَهُ قَتَلَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ سَبَبَ غَلَطِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ هُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ أَرَادَ عَدَّ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ فَعَدَّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوا قَتْلَاهُمْ أَوْ دَفَنُوهُمْ لِئَلَّا يُمَثِّلَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ كَمَا مَثَّلُوا هُمْ بِالْمُسْلِمِينَ عِنْدَمَا أَصَابُوا الْغِرَّةَ مِنْهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ.
وَانْتَظِرْ أَيُّهَا الْقَارِئُ قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [9: 165] الْآيَةَ.
وَأَمَّا قوله: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} فَقَدْ فَسَّرُوهُ بِأَقْوَالٍ: مِنْهَا أَنَّ مَعْنَاهُ يُخْزِيهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّ مَعْنَاهُ يَصْرَعُهُمْ لِوُجُوهِهِمْ وَفِي الْأَسَاسِ: كَبَتَ اللهُ عَدُوَّهُ: أَكَبَّهُ وَأَهْلَكَهُ، وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْأَسَاسِ فَسَّرَ الْكَلِمَةَ فِي الْكَشَّافِ بِقوله: لِيُخْزِيَهُمْ، وَيَغِيظَهُمْ بِالْهَزِيمَةِ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْكَبْتُ: الرَّدُّ بِعُنْفٍ وَتَذْلِيلٍ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَوْ يُخْزِيهِمْ. وَالْكَبْتُ شِدَّةُ الْغَيْظِ أَوْ وَهَنٌ يَقَعُ فِي الْقَلْبِ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي وَرَدَتْ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَصَرَّحَ الْبَيْضَاوِيُّ بِأَنَّ {أَوْ} هُنَا لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّرْدِيدِ، وَالْمَعْنَى: أنه يَقْطَعُ طَرَفًا وَطَائِفَةً وَيَكْبِتُ طَائِفَةً أُخْرَى، أَيْ وَيَتُوبُ عَلَى طَائِفَةٍ وَيُعَذِّبُ طَائِفَةً كَمَا فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ.
لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ جُمْلَةُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ هَذَا التَّقْسِيمِ، وَمَا بَعْدَهَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ كَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الَّتِي قَبْلَهَا كَذَلِكَ وَإِلَّا كَانَتْ غَيْرَ مَفْهُومَةٍ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ مِثْلِهِ عَلَى كَوْنِهِ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ.
أَمَّا كَوْنُهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ وَقْعَةِ أُحُدٍ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا.
رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ: اللهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ، اللهُمَّ الْعَنِ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامً، اللهُمَّ الْعَنْ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، اللهُمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَتِيبَ عَلَيْهِمْ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُنَّ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ حَتَّى سَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَالَ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ الْآيَةَ، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ السُّيُوطِيُّ فِي لُبَابِ النُّقُولِ وَلَمْ يَعْزِ الْأَوَّلَ إِلَى التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ اكْتِفَاءً بِمَنْ هُوَ أَصَحُّ مِنْهُمَا رِوَايَةً، وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، وَمَا رُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو وَحَدِيثِ أَنَسٍ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَهُوَ أنه قَالَ مَا قَالَ فِيهِمْ حِينَ أَدْمَوْهُ، ثُمَّ لَعَنَ رُؤَسَاءَهُمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ عَقِبَ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ تعالى ذِكْرُهُ: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ} {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}، {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ}. فَقوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى قوله: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} وَقَدْ يُحْتَمَلُ أن يكون تَأْوِيلُهُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ حَتَّى يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ نَصْبُ يَتُوبَ بِمَعْنَى أو الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى حَتَّى وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ أَمْرِ الْخَلْقِ إِلَى أَحَدٍ سِوَى خَالِقِهِمْ قَبْلَ تَوْبَةِ الْكُفَّارِ، وَعِقَابُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَتَأْوِيلُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ لَيْسَ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَمْرِ خَلْقِي إِلَّا أَنْ تُنَفِّذَ فِيهِمْ أَمْرِي وَتَنْتَهِيَ فِيهِمْ إِلَى طَاعَتِي، وَإِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَيَّ وَالْقَضَاءُ فِيهِمْ بِيَدِي دُونَ غَيْرِي. أَقْضِي فِيهِمْ وَأَحْكُمُ بِالَّذِي أَشَاءُ مِنَ التَّوْبَةِ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِي وَعَصَانِي وَخَالَفَ أَمْرِي، أَوِ الْعَذَابِ إِمَّا فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالنِّقَمِ الْمُبِيرَةِ، وَإِمَّا فِي آجِلِ الْآخِرَةِ بِمَا أَعْدَدْتُ لأهل الْكُفْرِ بِي، انْتَهَى قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْدَهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي الْآيَةِ.
وَأَقُولُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِمَا جَرَى فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ حِكْمَةٌ إِلَّا نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ لَكَفَى، فَكَيْفَ وَقَدْ جُمِعَ إِلَيْهَا مَا سَيَأْتِي مِنَ الْحِكَمِ الدِّينِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ؟!
كَانَ الْمُؤْمِنُونَ السَّابِقُونَ إِلَى الإسلام عَلَى ثِقَةٍ مِنْ وَعْدِ اللهِ تعالى بِنَصْرِ نَبِيِّهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ لَمْ يُزَلْزِلْ إِيمَانَهُمْ بِذَلِكَ ضَعْفُهُمْ وَقِلَّتُهُمْ، وَلَا إِخْرَاجُ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ أَوَّلَ تَبَاشِيرِ هَذَا النَّصْرِ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ اللهَ تعالى نَصَرَهُمْ عَلَى قِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ دُعَاءِ الرَّسُولِ وَتَضَرُّعِهِ وَاسْتِغَاثَتِهِ رَبَّهُ زَادَهُمْ ذَلِكَ إِيمَانًا بأنهمْ هُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَلَكِنْ وَقَعَ فِي نُفُوسِ الْكَثِيرِينَ- إِنْ لَمْ نَقُلْ فِي نُفُوسِ الْجَمِيعِ- أَنَّ نَصْرَهُمْ سَيَكُونُ بِالْآيَاتِ وَالْعِنَايَةِ الْخَاصَّةِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ لِلسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَأَنَّ وُجُودَ الرَّسُولِ فِيهِمْ وَدُعَاءَهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ هُمَا أَفْعَلُ فِي التَّنْكِيلِ بِالْكُفَّارِ مِنِ الْتِزَامِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي أَهَمُّهَا طَاعَةُ الْقَائِدِ وَالْتِزَامُ النِّظَامِ الْعَسْكَرِيِّ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الإسلام دِينُ الْفِطْرَةِ لَا الْخَوَارِقِ.
كَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِكَ أَنْ قَصَّرُوا فِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ وَجُرِحَ الرَّسُولُ نَفْسُهُ- وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ هُوَ- وَلَمْ يَنْهَزِمْ صلى الله عليه وسلم، كَمَا هِيَ السُّنَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الَّتِي بَيَّنَهَا تعالى قَبْلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ بِقوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [8: 25]- وَإِنْ تَبَرَّمَ الرَّسُولُ مِنَ الْكَافِرِينَ وَدَعَا عَلَى رُؤَسَائِهِمْ- فَكَانَ ذَلِكَ فُرْصَةً لِإِعْلَامِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَقِيقَةٍ مِنْ حَقَائِقِ دِينِ الْفِطْرَةِ، وَهِيَ أَنَّ الرَّسُولَ بَشَرٌ لَيْسَ لَهُ مِنْ أَمْرِ الْعِبَادِ وَلَا مِنْ أَمْرِ الْكَوْنِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَلِّمٌ وَأُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيمَا يَعْلَمُهُ، وَالأمر كُلُّهُ لَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ (154) يُدَبِّرُهُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآيَةِ (137) وَكِلَا الْآيَتَيْنِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ.
هَذَا الْبَيَانُ الْإِلَهِيُّ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ يَتَمَكَّنُ فِي النُّفُوسِ مَا لَا يَتَمَكَّنُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِوَاقِعَةٍ مَشْهُورَةٍ لَا مَجَالَ مَعَهَا لِتَأْوِيلِهِ وَلَا لِتَخْصِيصِهِ أَوْ تَقْيِيدِهِ، فَهُوَ مِنْ أَقْوَى دَعَائِمِ التَّوْحِيدِ فِي الْقُرْآنِ، وَدَلَائِلِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُؤَسِّسَ مُلْكٍ، وَزَعِيمَ سِيَاسَةٍ يُدِيرُهَا بِالرَّأْيِ لَمَا قَالَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ، فَأَيُّ نَصِيبٍ مِنْ هَذَا الدِّينِ لِلَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَمْرَ الْعِبَادِ وَتَدْبِيرَ شُئُونِ الْكَوْنِ لِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ أَوِ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ يُلَقَّبُونَ بِالْمَشَايِخِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَ وَيَخْذُلُونَ، وَيُسْعِدُونَ وَيُشْقُونَ، وَيُمِيتُونَ وَيُحْيُونَ، وَيُغْنُونَ وَيُفْقِرُونَ، وَيُمْرِضُونَ وَيَشْفُونَ، وَيَفْعَلُونَ كُلَّ مَا يَشَاءُونَ؟ هَلْ يُعَدُّ هَؤُلَاءِ مَنْ أَهْلِ الإسلام وَأَتْبَاعِ الْقُرْآنِ الَّذِي يُخَاطِبُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ- حِينَ لَعَنَ رُؤَسَاءَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَارَبُوهُ حَتَّى خَضَّبُوا بِالدَّمِ مُحَيَّاهُ وَكَسَرُوا إِحْدَى ثَنَايَاهُ- بِقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ}، وَقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ لِلَّهِ}؟ هَذَا تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وَهَذَا هَدْيُهُ الْقَوِيمُ، فَهَلْ كَانَ أَهْلُ بُخَارَى مُهْتَدِينَ بِهِ عِنْدَمَا كَانُوا يَقُولُونَ وَقَدْ عَلِمُوا بِعَزْمِ رُوسْيَا عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى بِلَادِهِمْ: إِنَّ شَاهْ نَقْشَبَنْدَ هُوَ حَامِي هَذِهِ الْبِلَادِ فَلَنْ يَسْتَطِيعَهَا أَحَدٌ؟ هَلْ كَانَ أَهْلُ فَاسَ مُهْتَدِينَ بِهِ عِنْدَمَا لَجَئُوا إِلَى قَبْرِ وَلِيِّهِمْ إِدْرِيسَ يَسْتَغِيثُونَهُ وَيَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى الْفَرَنْسِيسِ؟ هَلْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هُدَى هَذَا الدِّينِ عِنْدَمَا كَانُوا يَسْتَنْصِرُونَ بِقِرَاءَةِ الْبُخَارِيِّ أَوْ يَسْتَغِيثُونَ بِالْأَوْلِيَاءِ فِي بِلَادٍ كَثِيرَةٍ؟ أَيَزْعُمُونَ أَنَّ تِلْكَ النَّزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةَ تُعَدُّ مِنَ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ؟ أَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا رَوَاهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ فِي سَبَبِهَا وَهُوَ دُعَاءُ النَّبِيِّ عَلَى رُؤَسَاءِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا؟ أَلَمْ يَتَعَلَّمُوا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِعْدَادَ بِالْفِعْلِ مُقَدَّمٌ عَلَى الدُّعَاءِ بِالْقَوْلِ؟ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّ سَلَفَهُمْ كَانُوا يُنْصَرُونَ أَيَّامَ لَمْ يَكُونُوا دَائِمًا يَقُولُونَ: اللهُمَّ نَكِّسْ أَعْلَامَهُمْ، اللهُمَّ زَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ، اللهُمَّ يَتِّمْ أَطْفَالَهُمْ، اللهُمَّ اجْعَلْهُمْ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ بَعْدَ اللهَجِ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ غَيْرُ مَنْصُورِينَ فِي جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ؟ فَالْعَمَلَ الْعَمَلَ، الِاسْتِعْدَادَ الِاسْتِعْدَادَ، الْأُهْبَةَ الْأُهْبَةَ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [8: 60] وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْمَالِ، وَلَا مَالَ إِلَّا بِالْعَدْلِ، وَلَا عَدْلَ مَعَ حُكْمِ الِاسْتِبْدَادِ، ثُمَّ بَعْدَ كَمَالِ الِاسْتِعْدَادِ يَكُونُ الذِّكْرُ وَالِاسْتِمْدَادُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [8: 45، 46] هَذَا هُدَى الإسلام وَقَدْ تَمَثَّلَ لَهُمْ صِدْقُهُ فِي النَّبِيِّ وَصَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [23: 68]؟
ثُمَّ أَكَّدَ تعالى هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَأَيَّدَهَا بِقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَمَنْ كَانَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَانَ حَقِيقًا بِأن يكون لَهُ الأمر كُلُّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُ أن يكون لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِهِمَا شَرِكَةٌ مَعَهُ وَلَا رَأْيٌ وَلَا وَسَاطَةُ تَأْثِيرٍ فِي تَدْبِيرِهِمَا وَإِنْ كَانَ مَلَكًا مُقَرَّبًا أَوْ نَبِيًّا مُرْسَلًا إِلَّا مَنْ سَخَّرَهُ تعالى لِلْقِيَامِ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ خَاضِعًا لِذَلِكَ التَّسْخِيرِ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ فِيهِ عَنِ السُّنَنِ الْعَامَّةِ الَّتِي قَامَ بِهَا نِظَامُ الْكَوْنِ وَنِظَامُ الِاجْتِمَاعِ، وَفِي ذَلِكَ تَأْدِيبٌ مِنَ اللهِ تعالى لِرَسُولِهِ وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ ذَلِكَ اللَّعْنَ وَالدُّعَاءَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: يَعْنِي بِذَلِكَ- تعالى ذِكْرُهُ- لَيْسَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الأمر شَيْءٌ وَلِلَّهِ جَمِيعُ مَا بَيْنَ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا، دُونَكَ وَدُونَهُمْ يَحْكُمُ فِيهِمْ بِمَا شَاءَ، وَيَقْضِي فِيهِمْ مَا أَحَبَّ، فَيَتُوبُ عَلَى مَنْ أَحَبَّ مِنْ خَلْقِهِ الْعَاصِينَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ثُمَّ يَغْفِرُ لَهُ، وَيُعَاقِبُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ عَلَى جُرْمِهِ فَيَنْتَقِمُ مِنْهُ غَفُورٌ الْغَفُورُ: الَّذِي يَسْتُرُ ذُنُوبَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ مِنْ خَلْقِهِ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ ورَحِيمٌ بِهَمْ فِي تَرْكِهِ عُقُوبَتَهُمْ- عَاجِلًا- عَلَى عَظِيمِ مَا يَأْتُونَ مِنَ الْمَآثِمِ اهـ. وَلَا تَنْسَ أَنَّ مَشِيئَتَهُ الْمَغْفِرَةَ أَوِ التَّعْذِيبَ جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنٍ حَكِيمَةٍ مُطَّرِدَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. (رَاجِعْ ص 223 مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ طَبْعَةِ الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ). اهـ.